وحدة أسس علم الإجتماع

علم الإجتماع والعلوم الإجتماعية: سؤال الموضوع والحدود تتمة

مفاهيم

9/21/20251 min read

علم الإجتماع والعلوم الإجتماعية: سؤال الموضوع والحدود تتمة

لئن كان علم الإجتماع يعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية، فإن هذه الأخيرة لا توجد مستقلة عن بعضها البعض. فهي تتنوع وتؤثر في بعضها بعضا. مما يجعل من إقامة حدود صارمة بين فروع العلوم الإجتماعية أمرا بالغ الصعوبة. وداك ما شدد عليه موريس دوفرجيه Duverger Mourice عندما وصف تلك الحدود بالزائفة.

فحينما نتساءل عن موضوع علم الإجتماع، غالبا ما يدور في خلدنا إجابات حول الظواهر الإجتماعية والتفاعلات الإجتماعية والعالقات الإجتماعية، أي، كل ما يرتبط بالمجتمع. ولا شك أن إجابات من هذا النوع ستبدو صائبة لوال أنها تنطبق، أيضا، على السؤال حول ما تدرسه علوم أخرى كالاقتصاد، والانثربولوجيا وعلم السياسة والجغرافيا البشرية والتاريخ بوصفه علم وقائع إنسانية ماضية…الخ. مما يجعل من موضوع الظواهر الإجتماعية والعالقات والتفاعلات موضوعا لهذه العلوم ذاتها. وهو أمر يزيد من درجة غموض الحدود بين معظم هذه التخصصات. فما دام التداخل بين موضوعات هذه العلوم يزداد، فقد أصبح من غير الممكن تمييزها من حيث الموضوع، مما يفرض التركيز على مناهجها ومقارباتها ووجهات نظرها في تناول موضوعاتها.

سنعرض فيما يلي، لما يمكن اعتباره نقط التقاء من جهة وحدودا فاصلة من جهة أخرى، بين علم الاجتماع وبعض فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية، من خلال التركيز على علم التاريخ باعتباره علما إنسانيا يظل عالم الإجتماع في حاجة ماسة الإستثمار معطياته ودراساته من جهة، وعلمي النفس والانثربولوجيا باعتبارهما أكثر التصاقا بالسوسيولوجيا واهتماماتها من جهة ثانية.

التاريخ وعلم الإجتماع:

يشترك العلمان معا في سعيهما إلى فهم بني البشر في اعتمادهم المتبادل. إنهما يسعيان إلى دراسة الاجتماع البشري وما يقع فيه من ظواهر وتفاعالت وعالقات. بيد أن علم التاريخ يركز على ماضي البشر وما يجمع بينهم، بينما يفضل علم الإجتماع إيلاء الأهمية للحاضر، كما للماضي، في تناوله لموضوعه. فأين يقع الفرق بين العلمين معا ؟

قد لا تجابهنا في التمييز بين التاريخ وعلم الإجتماع مشاكل كثيرة، إذا ما نظرنا إلى التاريخ بوصفه علما يدرس ماضي الإنسان والمجتمعات، منظور إليه من حيث كونه سياقا من الوقائع والمواقف. من خلاله يعمل المؤرخ، جاهدا، على إعادة بناء الماضي، موظفا كل ما توفر له من تفاصيل ومعطيات إمبريقية تكشف عن تفاصيل الحادثة بما تحمله من معنى.

يسعى المؤرخ إلى إعادة بناء وقائع الماضي بما تحمله من توترات وتفاهمات وبما تنطوي عليه من عالقات وتفاعلات. وهو يركز على تفصيالت الأحداث: كيف وقعت الثورة الفرنسية؟ ولما وقعت؟ كيف اندلعت الحرب العالمية الأولى؟

إن الحادثة، موضوع علم التاريخ، لا تقع إلآ مرة واحدة. وهي، بذلك، محددة بظروف وبزمان لا يتكرر. لقد حدثت الحرب العالمية الأولى مرة واحدة، وحدثت بعدها حربا عالمية ثانية، وإذا حدثت حروبا عالمية أخرى مستقبال، فلن تكون بنفس الشكل، ولن تكون مطابقة لنظيرتها السابقة الحربين العالميتين الأولى والثانية. من هنا فإن الحادث الإنساني يتغير، بخالف الحادث الطبيعي، حيث يبدو هذا الأخير بطيء التغير إن لم يكن مستقرا. من هنا، تمنح الحوادث الطبيعية للدارس الفرصة إلعادة معاينتها، في الوقت الذي تبدو فيه الحوادث الإنسانية متغيرة بسرعة.

يحبل التاريخ بحوادث الحروب والصراع والتوترات الاجتماعية ونشوء الدول وانهيارها. وما يهم المؤرخ فيها هو الكشف عما يتردد وراء اباطر الفردية والزمانية لهذه الأحداث. من هنا، يصبح مهتما بالسؤال حول ما إذا كان ممكنا فرز أنماط مستمرة لوقائع الحرب، المختلفة زمانيا ومكانيا، بصرف النظر عن تباينها. فما يهتم به التاريخ إنما وصف مجموعات متنوعة من الأحداث التي يتجلى فيها الإجتماع البشري. في مقابل ذلك، يسعى علم الإجتماع إلى تحليل الأحداث إلى عناصرها الأساسية المحدودة نسبيا، ليصوغ القوانين التي تحكم عملها.

ورغم اختالف المقاربة التي يعتمدها المؤرخ في تناوله للحوادث وتلك التي يعتمدها عالم الإجتماع، فإن الحدود بينهما قد تنمحي شيئا فشيئا على مستوى الواقع. خاصة أن المؤرخين ما انفكوا يسهمون في اكتشاف أنماط متكررة في الواقع الاجتماعي. ويحاولون فهم التطورات التي عرفتها المجتمعات فهما سببيا. من هنا، تبرز دراسات لمؤرخين شكلت قيمة مضافة في علم الاجتماع. وبالمثل، كشفت أعمال سوسيولوجية عن أهميتها في فهم الصيغ الماضية للاعتماد الإنساني المتبادل.

إن الظواهر الإجتماعية، التي تشكل موضوع علم الإجتماع، ليست ثابتة، بل تتغير في الزمان والمكان، وهي ليست مكتملة التشكل كما تتبدى للدارس، لذلك يسعى عالم الإجتماع الى تتبع تطورها، وهو ما يقوده إلى الاستعانة بعلم التاريخ. من هنا نفهم مدى الأهمية التي يكتسيها التاريخ بالنسبة لعالم الإجتماع الذي يجد فيه مختبرا خصبا لتتبع تطور الظواهر وتغيرها، والإجابة عن كثير من التساؤالت التي تخالجه.

علم النفس وعلم الإجتماع:

يبدو علم النفس على صلة وثيقة بعلم الإجتماع أكثر من غيره من فروع العلوم الاجتماعية. ويشتركان في كونهما يتناوالن، بكيفية واسعة، السلوك الإنساني. ويتجه علم النفس صوب دراسة الظواهر النفسية المرتبطة بالفرد، من قبيل: الانفعالات، الإدراك، الذاكرة، الذكاء، العواطف، التعلم، الدافعية....الخ.

وعلى عكس علم النفس الذي يركز على سلوك الفرد، يفضل علم الإجتماع دراسة السلوك الاجتماعي الناجم عن تفاعل الأفراد في بيئة مشتركة وخضوعهم لمعايير اجتماعية. بيد أن ذلك لا ينفي التداخل بينهما في مقاربتهما للكثير من الموضوعات. وهو ما يشدد عليه الكثير من السوسيولوجيين المعاصرين، عندما ينظرون إلى السوسيولوجيا على أنها فهم وتفسير الفعل الاجتماعي وأنها ذاتية وموضوعية في الوقت نفسه. وإذا كان الاجتماعي يعاش نفسيا من طرف الأفراد، فمن المؤكد كذلك، أن النشاط النفسي، في جزء يسير منه، يتشكل من تكيف مستمر مع المعطيات الاجتماعية.

لا جدال في أن توجيه الفعل يتأثر بإشراطات سيكولوجية. وكما يبين التحليل النفسي، تخضع الأفعال الإنسانية المختلفة لاندفاعات، جزء منها لا شعوري. وجزء منها يرتبط في توجيهه بتجارب سابقة قد تظل موغلة في النسيان لزمن بعيد. وهي تجارب قد تكون مرتبطة بطفولة الفرد أو بمرحلة عمرية تركت آثارها في نفسيته. غير أن الاشراطات السيكولوجية لفعل الفرد لا يلغي وجود إشراطات اجتماعية تكشف عنها التفاعلات والانماط الجمعية للتفكير والإحساس.

فلو أخذنا مفهوم الشخصية كموضوع لدراسة علم النفس، وجدنا أنه في الوقت الذي يركز فيه هذا الأخير على البعد النفسي من خلال تسليط الضوء على السلوك وبناء الشخصية الفردية، فإن علماء الإجتماع يفضلون دراسة الشخصية من خلال اهتمامهم بدراسة المواقف الاجتماعية التي تؤدي إلى نمط ما من السلوك. أي الاهتمام بما تخلفه أنماط من العلاقات الإجتماعية من خصائص شخصية معينة.

ورغم أن دوركايم شدد على عدم الخلط بين الظواهر الإجتماعية وبين الظواهر النفسية " وذلك لان الظواهر الأخيرة لا توجد إلا داخل شعور الفرد وبسببه" ، فإن عددا من علماء الإجتماع، بعده، قد نأوا بأنفسهم عن هذا الفصل، الصارم، بين علمي النفس والاجتماع كما هو الحال بالنسبة لماكس فيبر، فلفريدو باريتو، جورج هربرت ميد.

هذا الأخير، الذي كشف أن شخصية الفرد تتطور وتبنى من خالل التفاعل مع الآخرين ومن خلالهم. حيث إن الشخصية النفسية، من حيث نشأتها، تمثل نتاجا اجتماعيا. وعلى هذا النحو، ال يمكن اعتبارها معطى محض فردي، وإنما هي حصيلة لتكيف فردي متواصل مع الوسط الاجتماعي وإعادة بناء له في الآن ذاته.

الانثربولوجيا وعلم الإجتماع:

تبدو عالقة الانثربولوجيا علم الإنسان بعلم الإجتماع قوية، كما تبدو الحدود الفاصلة بينهما شكلية فحسب. فاهتمام الانثربولوجيا ينصب حول تتبع مجرى التطور الإنساني من الناحيتين البيولوجية والثقافية، كما يرى كاليد كلوكهون Kluckhohn Clyde ،والكشف عن القوانين التي تحكم هذا التطور. ويسعى عالم الانثربولوجيا إلى الكشف عن الارتباطات الجوهرية بين الجوانب الطبيعية المختلفة للإنسان وبين عادات الشعوب في الماضي والحاضر. وبغض النظر عن فروعها الانثربولوجيا الطبيعية والانثربولوجيا الإجتماعية والثقافية، تظل الانثربولوجيا فرعا من فروع العلوم الإجتماعية الاشد تداخال مع السوسيولوجيا.

فمع أن الانثربولوجيا قد اهتمت منذ بدايتها بمعرفة الآخر المختلف ثقافيا الغير/الغريب، الذي ينتمي لإنسان المجتمعات التي نعتت بالبدائية أو العتيقة، إلا أنها قد بدأت الانفتاح على دراسة المجتمعات الحديثة ومؤسساتها وتقاليدها ونظمها. باحثة عما يميزها ومركزة على الممارسات والطقوس التقليدية وبنيات التفكير ومنظومات القيم التي ظل وجودها قائما في هذه المجتمعات.

من هنا، يبدو أن الاختالف بين علم الإجتماع والانثربولوجيا، قد وقع في أنماط المجتمعات التي يميل كل منهما نحو دراستها، وهو اختلاف بدأ ينمحي شيئا فشيئا. خاصة مع تطور اهتماماتهما معا، وتداخل مناهج الدراسة. ففي الوقت الذي ظل فيه الانثربولوجيون يوظفون الأدوات الكيفية ومناهج تتماشى مع طبيعة الموضوعات التي تخص المجتمعات البدائية المدروسة، من خلال اعتمادهم على الملاحظة التي ييسرها لهم عيشهم بين أفراد المجتمعات المدروسة، فإن علماء الإجتماع قد لجأوا في العقود الأخيرة، بدورهم، إلى توظيف المناهج والأدوات الكيفية التي أصبحت تمثل مصدر غنى يسدون بواسطتها ثغرات البيانات والمعطيات الإحصائية. إضافة، إلى أن علماء الإجتماع قد أصبحوا بدورهم يتجهون إلى دراسة الجماعات الصغرى، شأنهم في ذلك شأن الانثربولوجيين. وبالمجمل، فإن حقول الاهتمام وميادين الدراسة ومناهجها تتداخل بين الحقلين معا، لدرجة يصعب معها فرز الخيط الرقيق الذي يفصل بينهما.

أنثربولوجيا: كلمة من شقين، مستمدة من أصل يوناني. أنتربوس بمعنى الإنسان ولوغوس بمعنى علم أو تفكير علمي منظم، من هنا تعني الانثربولوجيا علم الإنسان.

لقد سعى عالم الإجتماع الأمريكي بيتيريم سوروكين Sorokin Pitirim إلى وضع حدود للتمييز بين علم الإجتماع وغيره من العلوم الإجتماعية الأخرى، معتبرا علم الاجتماع ذلك العلم الذي " يدرس الخصائص العامة المشتركة بين جميع أنواع الظواهر الإجتماعية، والعلاقات بين هذه الأنواع، وكذلك العالقة بين الظواهر الإجتماعية وغير الإجتماعية" . ما يجعل من علم الإجتماع علما واسعا ومركبا، يختص بدراسة الخصائص العامة المشتركة بين الظواهر بوجه عام. وهذا التعريف الذي يبدو عاما، بقدر ما يكشف تعدد مواضيع واهتمامات علماء الإجتماع يكشف عن التضارب بينهم في تحديد موضوع علمهم. وهو الأمر الذي عبر عنه ريمون آرون Boudon Raymond ،عندما اعتبر أن تعريف علم الإجتماع، بوصفه دراسة علمية للمجتمعي social Le بشكل عام، إنما يمثل تعريفا مبهما يعيق كل محاولة لكتابة تاريخ لهذا العلم ومعرفة أين يبدأ .

تظل حقول وموضوعات اهتمام العلوم الاجتماعية، في مجملها، متداخلة، وبقدر ما يؤدي هذا التداخل إلى إغناء مقارباتها فإنه يساهم في التباس الحدود الفاصلة بينها. من هنا، نفهم تشديد الكثير من علماء الإجتماع على المناهج والمنظورات كمعايير للفصل بين هذه الحقول المعرفية، منبهين إلى عدم وجود موضوع سيوسيولوجي في ذاته، بل إن ما يضفي على الموضوع صبغته السوسيولوجية إنما يتمثل في المقاربة التي يدرس وفقها.