سوسيولوجيا المجتمع المغربي

شكّل المجتمع المغربي موضوع اهتمام و"إثارة" لمجموعة من الدراسات المختلفة في حقل العلوم الاجتماعية، وذلك بما يحتويه تنظيمه الاجتماعي من وحدات وبنيات شكّلت "حقلا معرفيا" لاختبار العديد من النظريات، وإطارا لممارسة وتطبيق مجموعة من المقاربات، خاصة في حقل الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا.

مفاهيم

9/21/20251 min read

مقدمة

المجتمع المغربي احتلّ مكانةً مركزية في إنتاج المعرفة الاجتماعية (سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا) لأسباب تاريخية ومعرفية وسياسية عدة. هذه المقالة تحاول أن تبيّن الشروط التي جعلت من المجتمع المغربي «حقلًا معرفيًا» للعلوم الاجتماعية، ثم تستعرض أهمّ إنتاجات ذلك اللقاء المنهجي والنظري، والنماذج والمقاربات المستخدمة، والصورة السوسيولوجية التي تكوّنت عن المجتمع المغربي، وأخيرًا تقييمًا إبستيمولوجيًا لأدوات ومفاهيم تلك الدراسات مع اقتراحات منهجية لمراجعتها.

1. الشروط التاريخية والمعرفية لكون المغرب موضوعًا للمعرفة الاجتماعية

الاحتلال والاحتكاك الاستعماري: الاحتلال الفرنسي/الإسباني احتمل إنتاج دراسات إدارية وأنثروبولوجية هدفها فهم المجتمع لتسييره؛ هذا خلق سجلات وثائقية وإثنوغرافيات مبكرة.

التقاطع بين العلوم الأوروبية والتراث المحلي: الاستناد إلى مفاهيم أوروبية (القبيلة، الفئة، العصبية) مع إشارات إلى مرجعيات مثل ابن خلدون خلق حواراً بين تراث محلي ونظريات غربية.

التحولات الاجتماعية والحداثة المتسرّعة: التحديث، الهجرة، المدن المتوسعة، التعليم، وتحوّل الأدوار الاقتصادية جعل المجتمع المغربي حقلًا خصبًا لدراسة التغيير الاجتماعي.

الوضع المتوسط بين «الشرقي» و«الأفريقي»: الجغرافيا الثقافية والسياسية للمغرب جعلته تجربة وسيطة تُستخدم للمقارنات الإقليمية والدولية.

الإنتاج الجامعي الوطني وظهور مراكز بحثية: مناهج محلية وطلبة مغاربة أعادوا صياغة الموضوع بقراءاتٍ نقديةٍ داخلية.

2. أهم إنتاجات «اللقاء» بين السوسيولوجيا/الأنثروبولوجيا والمجتمع المغربي

الإثنوغرافيا الريفية: دراسات عن البنيات العشائرية، الزراعة، علاقات الملكية الأرضية، وأنماط التكافل.

دراسات المدينة والتحضر: هجرة القرى، الفقر الحضري، أسواق العمل غير الرسمي، وأحياء الهامش.

الأسرة والجندر: تقاطعات بين التقليد والتحول في أدوار المرأة، الزواج والنسق العائلي.

السياسة والمجتمع المدني: شبكات الزبائنية (clientelism)، الحركات الإسلامية، وتكوين المواطن/الزبون السياسي.

هوية وثقافة: دراسات حول اللغة، الأمازيغية، الهوية الدينية والذاكرة الجماعية.

مرجعية تاريخية: إحياء قراءة ابن خلدون كمرجع تحليلي لكنه معادَل بمنهجيات معاصرة.

3. المقاربات والنظريات السائدة

الوظيفية والبنيوية (Structural-Functionalism): استعمال لفهم دور المؤسسات التقليدية في الاستقرار الاجتماعي (أو انهيارها خلال التحديث).

البنيوية والهيكلية: تحليلات للأنماط الرمزية واللغة والطقوس.

الماركسية والتحليل الطبقي: دراسات عن الصراع الطبقي، الملكية، واستغلال العمل، خصوصًا في الفترة النضالية والإصلاحات الاقتصادية.

نظرية التحديث/التنمية: تفسير التباينات عبر مراحل التنمية، مع نقد لاحق لفشلها في التقاط التعقيدات المحلية.

ما بعد الاستعمار (Postcolonial): إعادة قراءة الإنتاج المعرفي الاستعماري ونقد الخطابات المتعالية.

حوكمة وسلاسل قيمة عالمية: دراسات حديثة تضع المغرب داخل الاقتصاد العالمي وتأثيراته المحلية.

مقاربات ثقافية ونقدية: اهتمام بالخطاب، الهوية، والتمثلات.

4. الصورة السوسيولوجية المتشكّلة للمجتمع المغربي

تكوّنت صورة مركبة: مجتمع «تقليدي-متخلّف» في خطاب مبكر وحداثي/متحوّل في مقررات التحديث، و«هجين» من حيث التمازج بين عناصر تقليدية وحديثة، و«منقسم» طبقيًا ومجاليًا (حضور فروق بين ريف ومدينة، شمال وجنوب، ساحل وداخل). كذلك ارتبطت الصورة بنمطية عن «القبلية» والعلاقات الشخصية كآلية تفسير للتفاعل السياسي والاقتصادي.

5. نقد إبستيمولوجي: أسئلة على صلاحية ونجاعة المفاهيم والأدوات

الأطر النظرية المستوردة/الأوروبنتريّة: كثير من المفاهيم (مثل «القبيلة» أو «العشيرة») استوردت بدون إعادة تعريفٍ كافٍ يتناسب مع التحولات المحلية — ما يولّد تبسيطًا أو إسقاطًا.

التصوير الاستشراقي/الاستعماري: إنتاج المعرفة كان أحيانًا أداة لإدارة السيطرة، ما استلزم نقدًا لإعادة قراءة المصادر الاستعمارية.

الاختزالية والتمثيل الواحد: الخطر يتمثل في تعميم تجارب مناطق محددة على كل المغرب؛ التنوع الجهوي واللغوي والثقافي لا يُؤخذ كقاعدة.

المقارنة الزمنية الناقصة: دراسات قصيرة الأمد لم تلتقط الديناميكا التاريخية (الزمن الطويل).

المشكلات المنهجية: نقص في تبني مناهج مختلطة (كمّ/كيف)، اعتماد مفرط على تقارير إدارية، ضعف في المشاركة المجتمعية في البحث، وقلة الانفتاح على مصادر شفاهية محلية بلغات الأمازيغية واللهجات.

الحياد المزعوم والموضعية: الباحث «الغريب» قد يقرأ الظواهر عبر مرجعياته؛ الحاجة للانعكاسية (reflexivity) أقوى.

6. تقييم المفاهيم الرئيسية من حيث الإجرائية والفاعلية

القبيلة: مفيد تاريخيًا لكن إجرائيًا يجب تفكيك الاستخدام: هل نقصد شبكة نسب، تحالفات اقتصادية، أم سلطة رمزية؟ ضرورة تركيب متغيرات قياسية بدل المفهوم الجامد.

الزبائنية/العميل-الزبون: مفيد لشرح علاقات السلطة والموارد، لكنه يحتاج مؤشرات كمية (شبكات، موارد، مواقع)، وإلا يصبح وصفًا أخلاقياً لا تفسيرياً.

الطائفية/الدين: الدين ليس متغيرًا وحيدًا؛ يجب ربطه بمؤسسات، طبقات، وممارسات يومية لتقييم تأثيره الفعلي.

الحداثة/التقليد: ثنائية مضللة؛ أفضل العمل بمقاييس التحول (تنقل، تعليم، ارتباطات اقتصادية) بدل قطبين متقابلين.

7. اقتراحات منهجية ومنهجية لنقَلَة معرفية

منهجية متعددة الطرائق (Mixed Methods): الجمع بين بيانات كمية واسعة ونصوص إثنوغرافية عميقة.

التعدد الجغرافي واللغوي: تضمين دراسات من جهات متعددة واستعمال لغات البحث المحلية.

طولية زمنية (Longitudinal): تتبع نفس المجتمعات عبر الزمن لالتقاط ديناميات التحوّل.

بناء نظرية محلية: لاكتساب مفاهيم سليمة قابلة للتشغيل (operationalization) تستمدَّ من الواقع المغربي بدل الاستيراد الحرفي للنماذج.

المنهج التشاركي/الاجتماعي: إشراك الفاعلين المحليين في تصميم البحث وتفسير النتائج.

الانعكاسية والنظر النقدي للمصادر: خصوصًا المصادر الاستعمارية والإدارية.

التقاطعية (Intersectionality): ربط الجنس، الطبقة، الإقليم، واللغة في تحليل واحد لتجنب تبسيط الهوية.

خاتمة

المجتمع المغربي لم يعد مجرد «حقل» سطحي للمعرفة؛ بل أصبح مختبرًا معرفيًا يتطلب أدوات أكثر دقة، حساسية تاريخية، ومنهجية منفتحة ومتعددة. مراجعة المفاهيم الإبستيمولوجية المستخدمة — والانتقال من تصنيفات جامدة إلى مؤشرات قابلة للقياس والتحليل — سيسمح بفهم أعمق لبنياته التنظيمية وديناميكياته الراهنة. البحث المستقبلي يجب أن يوازن بين إرث المعرفة (ابن خلدون، الإرث الاستعماري، النظريات الغربية) وإبداع نظري محلي يُجعل من المغرب مصدرًا لفرضيات عامة قابلة للاختبار وليس موضوعًا خاضعًا لتصنيفات خارجية فقط.