مقال نحو فهم إنساني لمفهوم التنمية

لا يأتي تعقد مفهوم التنمية من تعقد ظاهرة التنمية في حد ذاتها ، أو من السيرورة التاريخية التي تعمل بداخلها، بل و أيضا من الطبيعة المركبة للمفهوم ذاته، وتعدد أبعاده و اختلاف مستوياته.

9/22/20251 min read

المقدمة:

كثيرة هي المفاهيم التي تتردد في الخطاب المعاصر، لكن قليلًا منها ما يثير من الجدل والتأويل مثل مفهوم "التنمية". فهذا المفهوم، رغم ما يبدو عليه من بساطة للوهلة الأولى، يخفي وراءه تعقيدًا كبيرًا نابعًا من طبيعته المركبة، وتعدد أبعاده، وتنوع السياقات التي يُستخدم فيها. فهل التنمية هي مجرد نمو اقتصادي؟ أم أنها مشروع إنساني متكامل؟ وهل يمكن اختزال الإنسان في بعدها المادي كما فعلت بعض النظريات الاقتصادية؟

العرض:

1. تعقيد المفهوم لا الظاهرة فقط:

يُخطئ من يظن أن تعقيد مفهوم التنمية ناتج عن تعقيد الظواهر المرتبطة بها أو السياقات التاريخية التي نشأت فيها فقط. فالحقيقة أن هذا التعقيد ينبع أساسًا من الطبيعة المفهومية المركبة للتنمية، إذ إنها لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تتضمن أبعادًا اجتماعية، ثقافية، سياسية وبيئية. فالتنمية ليست مجرد مؤشر للنمو أو حجم الناتج المحلي الإجمالي، بل هي عملية شاملة تسعى إلى تحسين جودة الحياة، وتمكين الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

2. القراءة الماركسية والتنمية بوصفها تحديثًا ماديًا:

في الأدبيات الماركسية، وعمومًا في معظم النظريات الاقتصادية التقليدية، تم اختزال مفهوم التنمية في التقدم المادي والاقتصادي. فقد اعتُبرت التنمية مرادفة للتصنيع والتحديث، وقيست غالبًا بالمؤشرات الكمية: كم الإنتاج، حجم الصادرات، معدلات النمو. وفي هذا السياق، تم التعامل مع الإنسان كعنصر إنتاج، وكوسيلة لتحقيق غاية أكبر هي تراكم الثروة.

هذا التصور، وإن بدا عقلانيًا في إطار عصره، إلا أنه يُقصي البُعد الإنساني للتنمية. فالثروة ليست هدفًا في حد ذاتها، بل يجب أن تكون وسيلة لتحقيق رفاه الإنسان، وصون كرامته، وتعزيز حريته. أما حين يتحوّل الإنسان إلى مجرد أداة داخل دورة الإنتاج، فإن التنمية تتحول إلى مجرد آلة لا روح فيها.

3. نقد التصور الأداتي للإنسان:

لقد أثبتت التجارب أن الاقتصار على التنمية المادية وحدها لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق التوازن المجتمعي أو رفاه الشعوب. فالتفاوت الاجتماعي، والتهميش، والأزمات البيئية، كلها نتائج لتصور تنموي غير متوازن، يُعلي من شأن الاقتصاد على حساب القيم الإنسانية والاجتماعية. لذلك، صار لزامًا إعادة النظر في هذا النموذج، وتبني مقاربة تنموية تجعل من الإنسان غاية لا وسيلة، وتضع العدالة، والتعليم، والصحة، والبيئة، ضمن أولوياتها.

الخاتمة:

إن التنمية الحقيقية لا تُقاس بالأرقام فقط، بل تُقاس بمدى قدرتها على تحسين حياة الأفراد، وتمكينهم من تحقيق ذواتهم في بيئة عادلة ومستدامة. ومن ثمة، فإن تجاوز التصورات التقليدية، والانفتاح على مقاربة شمولية وإنسانية، هو السبيل الوحيد لتحقيق تنمية حقيقية، تُعيد الاعتبار للإنسان كفاعل وغاية، لا كوسيلة داخل آلة الإنتاج.