اميل دوركايم 1858 - 1917

يقر غالبية الباحثين والمختصين في العلوم الاجتماعية، أن الانتاج الفكري لإميل دوركايم شكل نقطة تحول هامة في تاريخ الفكر الاجتماعي ونظرية علم الاجتماع ،حيث يعد هذا الأخير أحد دعائم الحركة العلمية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،

مفاهيم

9/23/20251 min read

يقر غالبية الباحثين والمختصين في العلوم الاجتماعية، أن الانتاج الفكري لإميل دوركايم شكل نقطة تحول هامة في تاريخ الفكر الاجتماعي ونظرية علم الاجتماع ،حيث يعد هذا الأخير أحد دعائم الحركة العلمية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وذلك من خلال محاولته صياغة قواعد علمية تكون منطلقا لعلم جديد اسمه السوسيولوجيا، الذي يهتم بدراسة الوقائع الاجتماعية، وأساليب السلوك والتفكير والاحساس الخارجي عن الأفراد، والمزودة بقوة القهر التي تسيطر بها عليهم ، ومن هنا تصبح مهمة علم الاجتماع حسب إميل دوركايم ، هي تحديد قواعد المجتمع أو معاييره وكيفية السيطرة على السلوك بواسطتها .

وقد انطلق "إميل دوركايم " من مفهوم الوعي الجماعي لتفسيير الوقائع الاجتماعية، رافضيا بذلك التفسيير النفسي ي واللاهوتي والغيبي لها، ففي دراسيته ومعالجته لظاهراتي الجريمة والانتحار اسي بعد أن يكون للقيم والمثيل أي أهميية في تفسيير الوقيائع الاجتمياعيية ،م كيدا في نف الأن على ضيرورة فهم الظواهر الاجتماعية كأشياء قابلة للملاحظة والاختبار، على اعتبار ان هذه الأخيرة هي ظواهر خارجة عن الفردانية، وبالتالي فإن تشكلها انما يكون بفعل القهر والإكراه الاجتماعي ودون وعي من الأفراد،فلو أخذنا مثلا نموذج الانتحار نجد أن إميل دوركايم،ينطلق من ن يجة أسياسيية، وهي أن الانتحار ل سي ظاهرة نفسيية أوعضيوية، بل هي ظاهرة مجتمعية، مرتبطة بتقسييم العمل في المجتمع الرأسيمالي الصيناعي.

وبالتالي، يتحدد معدل الانتحار بحسب درجة اندماج الأفراد في الجماعة، والعلاقة بينهما علاقة علية أو سببية.

عليه سنحاول من خلال هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على معالم المنهج السوسويولوجي عند دوركايم في دراسته للظواهر الاجتماعية من خلال جرد القواعد المعتمدة من أجل بناء المنهج السوسيولوجي، هذه القواعد التي تضمينها في جميع كتبه لكنها موجودة بدقة أكثر في كتابه قواعد المنهج السوسيولوجي، وعليه اسنادا إلى ذلك سوف نسعى الى معالجة المسائل النظرية والتطبيقية المتعلقة بالمنهج انطلاقا منه.

اميل دوركايم في سطور

عاش إميل دوركايم في الفترة الممتدة بين 1858 - 1917م , يعد من أوائل الفرنسيين في علم الاجتماع الذين ساروا في طريق العمل الأكاديمي.

ولد دروكايم في إبنال باللورين، المقاطعة الفرنسية الشرقية، وأتى ميلاده لأب من الحاخامات اليهود،الذي أراد لابنه أن يسير على نهج الأسرة، بان يصبح رجل دين، وقد أراد الابن لنفسه هذا أيضا، فدرس وقرأ كتاب العهد القديم، والتلمود الذي يحوي تعاليم الأحبار الربانيين الموسويين، وفي الوقت نفسه درس العلوم العلمانية وسار في التعليم الحكومي.

وبعد محاولتين فاشلتين تم قبوله بالمدرسة العليا سنة 1879 وفيها التقي بعدد من الرجال الذين تركوا آثارا واضحة على الحياة الفكرية في فرنسا، من أمثال هنري برجسون الفيلسوف الشهير، وبيير جانيت الباحث في علم النف ، وكان من أكثر أساتذة المدرسة تأثيرا فيه فوستل دي كولانج م لف كتاب المدينة القديمة والذي أصبح بعد ذلك مديرا للمدرس.

وبعد تخرجه من هذه المدرسة سنة 1882 م اشتغل دوركايم بالتدري في المدارس الثانوية في سنة 1887 م، ليتاح له الذهاب إلى ألمانيا في إجازة علمية، وهناك تعرف على فكر " فاجنر" و " شمولر" و" فونت " وتأثر بهم وانعك هذا على موقفه الفلسفي، سواء من الفكر أو من الواقع، هذا بالطبع بجانب تأثره البالغ بفلاسفة عصر التنوير من أمثال "جان جاك روسو" ومرن سكيو، كما تأثر بالطبع بفكر " سان سيمون " الذي عده دوركايم أستاذه في علم الإجتماع.

من مؤلفاته

كتاب تقسيم العمل في المجتمع، ثم اصداره سنة 1893 .

كتاب قواعد المنهج في علم الاجتماع ثم اصداره 1895.

كتاب الانتحار ثم اصداره 1897.

كتاب الأشكال الأولية للحياة الدينية خلال عام 1912.

مفهوم الو اقعة الاجتماعية: الظاهرة الاجتماعية

الواقعة الاجتماعية والواقعة الفردية من أهم الموضوعات في الدراسة الاجتماعية، لارتباط قيام علم الاجتماع بها واستقلاليته، وتكمن أهميتها في وضع علم الاجتماع على قواعد ثابتة.

حدد دوركايم الموضوع الخاص بدراسة الوقائع الاجتماعية ليميزه عن باقي العلوم الأخرى. وعن الظواهر التي ت ناولها هذه العلوم وكذا تميي زه عن الظواهر الفردية والنفسية، لأن وظائفها تختلف عن الوظائف التي يقوم بها الفرد لوحده. فإذا كان المجتمع يشكل المادة الأساسية للظواهر الاجتماعية فإن الفرد يشكل المادة الأساسية للظواهر الفردية والظواهر الاجتماعية تشكل الميدان الخاص لعلم الاجتماع، لذلك فالظواهر الاجتماعية تتمثل بانعكاساتها أو بتجسيداتها الفردية؛ لذلك أبعدها دوركايم عن الأفكار الموجودة في وعي كل فرد وعن الحركة التي يقوم بها الأفراد، وبالتالي فهي ل س ظواهر اجتماعية، فالمعتقدات والاتجاهات وممارسات المجموعة هي ما يشكل الوقائع الاجتماعية. وهذه الأخيرة توجد على نحو مستقل عن الأشكال الفردية التي تأخذها في حال ان شارها.

يبدو من خلال كتابات دروكايم خصوصا كتاب "قواعد المنهج السوسيولوجي " أنها تسعى نحو تحقيق استقلالية السوسيولوجيا عن المعارف والعلوم الأخرى ، وعلى ذلك الأساس وضع الأس التي ينبغي ان يرس ى عليها علم الاجتماع أهمها هو دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء او موضوعات مادية يجب أن تخضع للملاحظة الخارجية، وبهذا الصدد يقول دوركايم: أن الظواهر الاجتماعية تشكل أشياء ويجب أن تدرس كأشياء. لأن كل ما يعطي لنا أن يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عدد الأشياء.. وإذا، يجب أن ندرس الظواهر الاجتماعية في ذاتها في انفصال تام عن الأفراد الواعين الذين يمثلونها فكريا، ينبغي أن ندرسها من الخارج كأشياء منفصلة عنا، إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء 2.

أما القاعدة الثانية فتتطلب تخلص عالم الاجتماع من كل الأفكار المسبقة وأن يشك شكا منهجيا بغية الوصول إلى اليقين الديكارتي .

والقاعدة الثالثة دراسة الوقائع المجتمعية التي تشترك في خواص معينة دراسة علمية موضوعية، من خلال الملاحظة والتصنيف والتفسير.

والقاعدة الرابعة دراسة الظواهر الاجتماعية التي تتميز بالتكرار والاطراء والعمومية والجبرية والإلزام، بملاحظتها من الخارج بعيدا عن العوامل الفردية والنفسية .

والقاعدة الخامسة هي التمييز بين الظواهر السليمة والظواهر الاجتماعية المعتلة أو المرضية وهو يطلق الأولى على كل ظاهرة تعم في المجتمعات المتحدة أو المتقاربة في الدرجة بشرط أن يكون وجودها في هذه المجتمعات في مرحلة من مراحل تطورها، أما المرضية فهي الظواهر الشاذة التي لا ترتبط بشروط الحياة الاجتماعية ويمكن التمييز بين هذين النوعين من خلال ما يلي:

أولا : تعد الظاهرة الاجتماعية سليمة بالنسبة الى نموذج اجتماعي معين ،وفي مرحلة معينة من مراحل تطوره إذا تحقق وجودها في أغلب المجتمعات المتحدة معه في النوع، وإذا لوحظ هذه المجتمعات في نف المرحلة المتماثلة أثناء تطوره

ثانيا: يمكن التحقق من صدق نتائج القاعدة السابقة ببيان أن عموم الظاهرة في نموذج اجتماعي معين يقوم على أساس من طبيعة الشروط العامة التي تخضع لها الحياة الاجتماعية.

ثالثا : وهذا التحقق ضروري إذا وجدت هذه الظاهرة في بعض أنواع المجتمعات التي لم تنته بعد من جميع ماحل تطورها.

والقاعدة السادسة هي تصنيف المجتمعات من حيث البنية والوظيفة فالباحث لن يستطيع تفسير أي ظاهرة اجتماعية معقدة الا بشرط أن يتبع بملاحظته جميع مراحل التطور التي تمر بها الظاهرة في جميع الانواع الاجتماعية ويمكن تحقيق دلك من خلال ملاحظة المجتمعات التي نقارن بينها في مرحلة مشتركة منم راحل تطورها ، وهكذا نحكم بتقدم الظاهرة او بتقهقرها او ببقائها على حالها الأولى، تبعا يعتريها من قوة أو ضعف في أثناء وجودها في كل مجتمع من هذه المجتمعات .

موضوع علم الاجتماع ومدركه:

كيف يعرف دوركايم الظاهرة الاجتماعية؟

أشرنا آنفا إلى ان الموضوع الأساسي الذي يهتم علم الاجتماعي بدراسته هو "المجتمع" وبما أن العناصر الجوهرية لحياة المجتمعات، على ظهر الأرض كان دائما هي هي، ونماذج السلوك الإنساني م شابهة ومشتركة في مظاهرها العامة، وإن اختلف أشكالها وملامحها، فقد كان من الممكن أن تلاحظ ، وتوصف، وتحلل، وتفسر أي أن تدرس دراسة علمية، ولذلك أطلق علماء الاجتماع الغربيون على موضوع علم الاجتماع عبارة " الظاهرة الاجتماعية" ب نما سماها ابن خلدون بالواقعة الاجتماعية.

وعرف الظاهرة أو الواقعة الاجتماعية حسب إميل دوركايم بأنها كل ضرب من السلوك ثاب أو غير ثاب يباشر نوع من القهر الخارجي على الأفراد أو أي سلوك يعم المجتمع بأسره وله وجود خاص مستقل عن الصور التي يشكل بها الحالات الفردية 3 ".

ولا يقتصر مدلول الظاهرة على نماذج السلوك السلبية في حياة المجتمعات أي على مشاكلها الاجتماعية، كالإجرام، وانحراف الأحداث، والفقر والبطالة والبغاء، والحروب والصراعات المختلفة، وغيرها، كما اعتقد ذلك بعض الباحثين الاجتماعيين، الذين حصروا علم الاجتماع في دراسة المشاكل الاجتماعية، والبحث عن أسبابها وطرق علاجها، بل هي تشمل حتى نماذج السلوك السوية الاعتيادية للحياة الاجتماعية.

وتتميز الظاهرة الاجتماعية بأنها:

-1 إنسانية: أي خاصة بالإنسان الذي هو الكائن الوحيد الذي ميزه الله بالقدرة على إنشاء العلاقات الاجتماعية عن طريق الفكر والعفل بخلاف بعض مظاهر التنظيم الجماعية التي نلاحظها في بعض الحيوانات لأنها تصدر بدافع من الغريزة فقط.

-2 إلزامية: أي ان الفرد يجد نفسه ملزما باتباعها داخل الجماعة التي أقرتها، كقيمة خلقية أو فنية، أو كعادة أو تقليد محترم، بحيث يتعرض من يخالفه لاس نكار المجتمع أو سخريته، وهذا لا يمنع قيام زعماء ومصلحين ضدها، إذا كان مضرة بالمجتمع.

-3 عمومية: لأنها تهم عددا كبيرا من الأفراد الذين يشتركون في ممارستها، وتتكرر لمجة طويلة من الزمن، حيث تظهر بصورة واحدة تقريبا وهذا بخلاف الظاهرة النفسية التي تختص بسل وك فرد واحد معينة في ظروف معينة.

-4 شيئية: أي أنها تدرس وت خذ كش يء، فلها إذن وجود مستقل عن الأفراد، لأنها توجد خارج شهوره، وندخل في إطار نماذج السلوك التي يمارسها المجتمع انطلاقا من القيم والقواعد التي حددها العرف أو الدين أو القان ون حيث يقول دوركايم:"مهما يكن من شيئ فإن الظواهر الاجتماعية أشياء،ويجب أن تدرس على أنها أشياء " 4 .

-5 مكتسية: أن يك سبها الفرد من المجتمع ن يجة استقرار أسلوب العلاقات الاجتماعية، طبق نماذج معينة تلقائية، وبإيحاء من العقل الجماعي الذي ينشأ من تفاعل الأفراد.

-6 ذات تاريخ: يرتبط بنشأتها وتطورها قد يزيد أحيانا على بضع سنين، كشكل بعض الأزياء مثلا، وقد يمتد لآلاف السنين، كنظام الأسرة مثلا، وهذا يعني أن الظاهرة سابقة في وجودها على الفرد، الذي يأتي لتعلمها ويمارسها.

-7 متغيرة: والتغير من الصفات الملازمة للظاهرة، التي تتعرض للتغير تح تأثير الظروف التي يمر بها المجتمع ويزداد هذا التغير اتساعا كلما طال تاريخ الظاهرة.

-8 متفاعلة: اي مع غيرها من الظواهر ولذلك لا يمكن دراستها منفصلة عن غيرها، فنظام الأسرة مثر متأثرا بالظواهر الدينية من جهة وبالظواهر الاقتصادية من جهة أخرى، وكلاهما متأثر بالظواهر السياسية وهكذا.

-9 معقدة: لأنها ن يجة عوامل متعددة، مثال ذلك الجريمة وبسبب هذا التعقل والتفاعل والتغير، كان دراستها أصعب من دراسة الظاهرة الطبيعية.

-10 نسبية: أي انها تختلف شكلا وصورة وحجما باختلاف الزمان والمكان كشكل التحية، وشكل تقاليد الخطبة أو الزواج.

وبالرغم من هذه الخصائص التي حددت بها الظاهرة الاجتماعية فإن بعض الاجتماعيين الأمريكيين يعتبر هذه العبارة فضفاضة جدا ويفضل عليها عبارة "العلاقات الإنسانية" ذلك أن تجاربنا اليومية في العلاقات الإنسانية مع أسرنا وأصدقائنا وأعدائنا، ومع الأجانب ت لف العادة الأساسية لعلم الاجتماع.

وفي تعريف آخر، يحددها من خلال خاصية الان شار داخل المجموعة وللتأكيد على صفتي القسر والاجتماعي كخاص تين أساس تين للظاهرة الاجتماعية يقول باختلاف المشاعر الجماعية عن الفردية، اختلاف شعورنا عندما نكون في جماعة عن تفكيرنا لوحدنا.

ولتأكيد ذلك يكفي ملاحظة نشأة الأطفال لإبراز خاصية القسر، فالتربية تفرض على الطفل طرق معينة في الرؤية والتصرف والشعور حيث يتم إجباره على الأكل بطرق معينة، وعلى النوم بانتظام والهدود والنظافة والطاعة، وفيما بعد أخذ المحيط بعين الاعتبار. واحترام التقاليد والعادات وعلى العمل من خلال القسر المفروض على الطفل من طرف الوسط الاجتماعي والهادف إلى تكوين الطفل على صورته )الأسرة والمربين وسطاء فقط. وهذا كله ما كان يستطيع الوصول إليه لو ترك وشأنه … ومن ثم يمكننا أن ننظر إلى هذه الأساليب على أنها صورة مصغرة للطريقة التي نشأ عليها هذا الكائن الاجتماعي في مختلف مراحله التاريخية، ذلك بأن الضغط الذي يعانيه الطفل في كل لحظة من لحظات حياته ما هو الا ضغط الب ئة الاجتماعية التي تحاول أن تطبعه بطابعها الخاص والتي تتخذ الاباء والمربين وسطاء لها.

ومن هذا المنطلق ي كد دوركايم " يمكن لنموذجنا التربوي أن يجد تفسيرا له في ضوء الب ئة الاجتماعية القائمة .. فالمجتمع لم يحدد أنموذج الانسان وفقا للأنموذج الذي يسعى المربي لتحقيقه فحسب، بل هو الذي يسعى المجتمع على بناء ذلك الأنموذج ويحققه وفقا لاحتياجه المتنامية" وبالتالي فالإنسان الذي يجب على التربية أن تحققه هو الانسان لا كما صنعته لنا الطبيعة بل الانسان على نحو ما يريده المجتمع أن يكون .

تتحدد الظاهرة الاجتماعية إضافة إلى خاصيتي الان شار والقسر بخاصية الموضوعية، إذ إن طرق التصرف والتفكير والشعور توجد خارج الذات الفردية أي في القوانين والعادات، كما أن الوقائع الاجتماعية كالوقائع الطبيعية عبارة عن أشياء حقيقية موجودة خارج الف رد لها وجودها الخاص بها،والتي لا يستطيع الفرد تغييرها، فهو يأخذها بعين الاعتبار، ولكي تكون الظاهرة اجتماعية يجب على مجموعة كبيرة من الأفراد دمج فعلها وهذا الدمج سوف ي دي إلى إنتاج جديد .

وعليه يتجلى المبدأ الأساس في فهم الوقائع الاجتماعية يتمثل في كونها حقائق موضوعية ومن هذا المفهوم انطلق علم الاجتماع،فالظاهرة الاجتماعية حسب دوركايم هي ضرب من السلوك العام واتجاهات وأساليب وأوضاع يصب فيها الإنسان تفكيره وأعماله، وهي ل س من صنع الأفراد ولكنها من صنع المجتمع، وهي عامة ولها كيان خاص بها، مستقل عن الصور التي ت شكل منها في الحالات الفردية ومزودة بقوة ملزمة مجبرة.

وانطلاقا من هذا العريف يمكن استخلاص خصائص الظاهرة الاجتماعية والمتمثلة فيما يلي :

-1 الظواهر الاجتماعية تتميز عن باقي ظواهر العلوم الأخرى ومستقلة عنها كونها إنسانية تنشأ بنشأة الاجتماع الإنساني.

-2 كون الظاهرة الاجتماعية ظاهرة إنسانية فهي تتميز بكونها عبارة عن قوالب وأساليب وأوضاع للتفكير والعمل الإنساني.

-3 الظاهرة الاجتماعية تتميز بكونها خارجية عن الأفراد وبكونها شيئية، بمعنى أنها توجد خارج الشعور الفردي باعتبارها حقيقية موضوعية ومستقلة عن وعي الأفراد وتنتقل عبر الأجيال ولا تزول بزوالهم أو بعضهم لكونها سابقة في الوجود على الوجود الفردي أسبقية المجتمعي عن الفردي. خضوع الأفراد لقوال ونظم ومثل اجتماعية سابقة عن الوجود الفردي في الحياة.

-4 أسبقية الظاهرة عن الفرد في الوجود يجعلها ل س من وضعهم لذلك تتميز بالتلقائية وهي من وعي العقل الجمعي.

-5 الظواهر الاجتماعية والمقصود بذلك الان شار داخل المجتمع. وتتجلى العمومية في:

-6 ان شار ها في محيط مجتمع معين في جميع هيئاته وطبقاته في مدنه وقراه.

-7 أن يكون ان شارها في طائفة من المجتمعات الم شابهة من حيث الظروف الطبيعية والموفول وجية والاجتماعية.

-8 ان يكون ان شاراه في نماذج اجتماعية مختلفة.

-9 الظاهرة الاجتماعية تتميز بالجبرية والإلزام أي أنها تفرض نفسها على الأفراد مما يحتم عليهم ان يراعوها ويوجهوا أعمالهم صوب ذلك سواء وافق ذلك رغباتهم الفردية أم لم يوافق ذلك .

-10 وقد حدد دوركايم منهجه التفسيري لدراسة الظواهر الاجتماعية م كدا على وجود علاقة سببية بين الظواهر المرصودة. ويقوم هذا المنهج على إبعاد كل ما هو ذاتي أو تأملي واستعمال التجريب، وتكرار الاختبارات والاحتكام إلى الجبرية الاجتماعية )المس ندة على الحتمية والعمومية والضغط الخارجي والعقاب الخ(، والابتعاد عن التصورات المسبقة والمعارف أو الأحكام الشائعة، وفي هذا الصدد يقول دوركايم :أن طريقتنا طريقة موضوعية ويقول في موضع آخر :"إن القاعدة التي ننطلق منها لاتفترض أي تصور ميتافيزيقي، ولات تضمن أي نظر تأملي في كنه الموجودات.إن ما تطلبه هو أن يضع عالم الاجتماع نفسه في وضع فكري شبيه بالوضع الذي يكون عليه الفيزيائيون والكيميائيون والفيزيولوجيون، حينما ينخرطون في استكشاف منطقة مجهولة عن ميدانهم العلمي.فعلى عالم الاجتماع، بدوره، وهو يحاول النفاذ إلى المجتمع أن يعي بأنه ينفذ إلى عالم مجهول.وعليه، أن يشعر بأنه، أيضا، إزاء وقائع غير منتظرة مثلما كائن عليه وقائع الحياة، قبل أن ت شكل البيولوجيا كعلم.

باختصار يقوم المنهج الدوركايمي على الخطوات التالية:

-التعريف بموضوع الدراسة، وملاحظة الظواهر من خلال إعادة بناءها علميا وتنظيم الوقائع في ضوء استكشاف العلاقات التي تتحكم في المتغيرات المستقلة والتابعة، والالتزام بالخاصية العلمية للفرضية السوسيولوجية.

يقوم المنهج الوضعي على منهجية استقرائية تجريبية وتنطلق من مشكلات اجتماعية وفرضيات علمية والاستعانة بالتجريب التكراري والترابطي واس ثمار الإحصاء الرياض ي واستخلاص القوانين والنظريات .

انطلق دوركايم في تحليله للانتحار " باعتباره ظاهرة فردية ترجع الى الفروق الفردية للأفراد وهي ليست فروقا سيكولوجية وإنما ترجع الى بعض الخصائص الاجتماعية لكل فرد من الأفراد حسب الظروف التييع ش فيها في الأسرة والمهنة وما الى ذلك ، والتي تنعك على وعيه الفردي وتحدده وبالتالي يأثر هذا الوعي في سلوكه وفي قيمه وفي مواقفه بل وفي واقعه وبإيجاز يأثر الوعي في واقع الناس وتصرفاتهم ".

وبهذا يمكن القول بأن كل تحليلات دوركايم تقوم على رفض لكل معطى قبلي priori وعلى الاستخدام المنظم للإحصاء، فمن خلاله فحصه التفسيرات الشائعة عن الانتحار من قبيل الاختلالات العقلية، العوامل الكونية والمناخية والتقليد، والوراثة والعرف … الخ. توصل الى ن يجة مفادها أن المحيط الاجتماعي المحيط بالفرد هو الذي يحدد ويتحكم بانتحاره، حيث قام بفحص السياقات الدينية والعائلية والسياسية والاقتصادية وقارن الأوساط الحضرية والقروية والمناطق والبلدان والحقب فوصل إلى خلاصة كون الانتحار في المدن أكثر منه في القرى، وعند العزاب أكثر من المتزوجين وأكثر عند المتزوجين بدون أبناء، وأكثر في حالة غياب الدين، وعلى العك من ذلك يقل الانتحار في صفوف ا لأف راد المنتمين جماعة دينية، وكذلك تقل نسبة انتحار الأفراد عندما تكون بلادهم في حالة حرب أو في أزمة اقتصادية مما ي دي الى تقوية الروابط الاجتماعية التي تعزز اللحمة والتضامن في الأزمات .

وفي هذا السياق توصل دوركايم إلى أن العائلة والدين والمجتمع السياس ي هي مقدار من الزمر الاجتماعية التي تحدد هوية الأفراد، حيث كلما ضعف هذه الزمر بشدة فإن الفرد يفقد نقاط اس ناده. أما في دراسته للدين من خلال كتابه الصور الأولى للحياة الدينية فقد لاحظ دوركايم بأن المقدس هو القاسم المشترك بين جميع العقائد، فالمقدس هو نتاج الحياة الجماعية وبالتالي فالدين هو المجتمع وبهذا يكونان مترادفان، ويعني ذلك أن المجتمع هو الذي يغرس ويولد طبيعة التفكير الديني لدى الفرد ومن ثم فالأشكال الدينية هي تعبيره عن الأشكال الاجتماعية.

فالدين في نظره هو مجموعة من المعتقدات والممارسات المرتبطة بالمقدس، المتميزة بالطابع الروحي المجرد وقد توصل دوركايم إلى هذه الخلاصات من خلال دراسته الاثنولوجية لقبائل بدائية بكل من استراليا والهنود الحمر بأمريكا .

وقد خلص المعالجة الدوركايمية بصدد الدين أن هذا الأخير هو شيئ اجتماعي ، وأن التصورات الدينية ما هي إلا تصورات جماعية تعبر عن حقائق جماعية 8 ، وعن طريق هذه القنوات ت شكل الحياة الاجتماعية بكل افرازاتها كظواهر تكون موضوع علم اجتماع.

9 وعرض من خلال عمله تقسيم العمل de la división du travail 1893 الذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه فكرة مركزية حول تطور المجتمعات مفادها أن المجتمعات تنتقل تدريجيا تحت تأثير تقسيم العمل من التضامن الآلي إلى التضامن العضوي، فالآلي يقوم على كون الروابط الاجتماعية تتأسس على التشابه والتماثل بين الأفراد ويمتص الوعي الجماعي وعي كل فرد. في حين في المجتمع الصناعي حيث التضامن العضوي يقوم الترابط على التعاقد وعلى تحديد وعي الأفراد وان شار الفردانية.

ففي المجتمع القديم حيث التضامن الآلي يمكن أن يحل بعض أفراد المجتمع محل بعضهم الآخر، ووعيهم بكامله مهموم بالأخلاق، والمعتقدات الجماعية على عك المجتمع الجديد حيث التضامن العضوي فأفراده متمايزون بشكل كبير.

ان المنهج الذي ارتضاه دوركايم في دراسته للظواهر الاجتماعية ، وحاول ان يحدد مراحله على غرار المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية ، و مازال هذا المنهج صادقا في عمومه وان كان الدراسات الاجتماعية أخذت فيما بعد تصطنع اساليب منهجية جديدة أكثر تحديدا وأكثر ملائمة لطبيعة الظواهر الاجتماعية.